أقبلوا
مع الليل، على الوجوه ظــلمات الليل المنهزم، و في الأعمـاق منهم يـشرق أمل شــاحب
كشعاع غروب جديد ، كانت تلك الليلة هي السابقة لعيد الفصـح عند اليــهود،
وكان عيسى و تلاميذه الاثنا عشر قــد اجتمعوا في بيت أحد أتباعه لتناول طعام
العشاء ، كانوا قد عرفوا مـا دار في اجتماع مجلس "السنهدرين"
الـــذي دعا إليه الحاخام الأكبر _قيافا_ ، و أعلن فيه أنه <<خير
لنا أن يموت إنســان واحد من الشعب و لا تهلك كل أمة يهود>>..!
![]() |
عيسى و حوارييه في العشاء الاخير |
كان قيافا قد جمع المجلس ليــروا كيف يستطيعون أن
يوافقوا <<يسوع الذي يدعى المسيح>> عن الــوعظ و يمنعوا عدد
أتباعه من الازدياد ، فقد ارتبك كــهنة يهود من جرأة عيسى حين عاد
مرة أخرى بعد ثلاثة أعوام من ظــهوره في فناء الهيكل و طــرده التجّار و
الصيارفة ، لقد جاء هذه المرة إلى أورشليم _ليس وحده كما فعل في ذلك
اليوم_ و لكن كان حوله من الأتباع كثيرون ينشدون و يـــرتّلون في الشوارع ،يندفعون
وراءه وقد انتباتهم نــوبة قوية من الغضب الشديد ، فراحوا يــقلّبون مناضد
الصيارفة و التجّــار، و يبعثرون نقودهم على الأرض، و يخرجونهم من فناء الهيكل
بــضرب العصي، و يبدو أن الاستقبال
الحماسي الذي استقبل بــه نبي النـــــاصرة في أورشليم
حــيّـر زعماء اليهود، فصاروا يخشون حماسة هذه الجماعات التي اجتمعت في عيد
الفصح خوف أن تدفعها عواطفها الثائرة و نزعتها الوطنية إلى الثورة على
الســلطة الرومانية، فتكون عاقبتها القضــاء على ما يتمتع به اليهود و
زعماؤهم من حكم ذاتي ، و حرية في جمع المــال و النفــوذ ، ووافقت أغلبية المجلس
على رأي الحاخام، و أمروا بإلقــاء القبض على عـــيسى النــاصري.
العشـــاء الأخـــير
في تلك، الليلة جلس عيسى عند رأس المائدة، و قد لاحــظ التنافس بين حوارييه
على مقاعد الشرف القريبة منه، و ترك مقعده على الفــور، وأمسك حوض ماء، وغسل أقدام
تلاميذه، واندهشوا وهم يرون معلّــمهم يفعل ذلك.
واحتج
بعضهم، ولكنه قال لهـم : <<لقد حاولتم التنافس على مقعـد الشرف ،
والآن أضرب لكم المثل الـذي يجب أن تحتذوه، تذكروا أن الخادم ليس أعظم من سيده ،
ولا الذي أرسل بأعطم من الذي أرسله>>.
فهم
التلاميذ ذلك اللوم، وراحوا يتناولون عشاءهم فــي صمت، و فجأة قال لهم : <<الحق
أقول لكم إن أحدكم ســـوف يسلمني>>، وأخافت الكلمات التلاميذ، ونظر
كل منهم إلى الآخـر و هم يتهامسون : <<هل هو أنا يا معلم؟>>،
وقال عيسى: <<إن الذي يضع يده في الصفحة معي هو الذي سيسلمني ،
ولقد كان خيراً للذي يـسلّمني أن لو كان لم يولد..!>>، و أكلوا في
صمت، و لم ينتبه أحد إلى أن _يهوذا الأســخريوطي_ كان هو
بالفعل الذي وضع يده في الصفحـة معه...!
عندما انتهت المأدبة الحزينة، خرج عيسى من
المدينة إلى حديقة _جشماني_ حيث اعتاد أن يخرج للصلاة و التأمل ،
وكان جميع تلاميذه معه فيما عدا يهوذا الذي كان قد غادرهم بعد العشاء
الأخير واستغراقهم في النوم، وبعد منتصف الليل، شقّ السكون في الحديقة و صول يهوذا
الأسخريوطي و هو يتقدم جماعة من الضــباط و الجنود حاملين المــصابيح و
المشاعل و العصي، و تقدم عيسى لمقابلة الضباط يسألهم عمّن يبحثون؟
وأجابوه:<<نبحث عمّـن يسمى يسوع
الناصري>>، قال على الفور:<<أنا هو>>، ولم
يكد يقول ذلك حتى سقط الجميع على وجوههم ، وعندما نــهضوا ، وضع الضباط أيديهم على
نـــبي الناصرة و قيّدوه، وبينما هرب التلاميذ واختبأوا، اقتيد معلمهم إلى
بيت كبير كهنة اليــــــهود.
أغرب محاكمة في التاريخ
بعد ليلة طويلة مرهقة من الاتهامات و الإهانات، جـيء بــعيسى
إلى قاعة المحاكمة أمام _بيلاطس البنطي_ حاكم أورشليم الروماني
متهّـماً بالكفر و التـمرّد ، وحقق بيلاطس معه دون اهتمام بالمنازعات الدينية
الخاصة باليهود لعله يجد فيه واحـداً من أولئك الزعماء العديدين الذين
كانوا يثيرون الناس ضد الحكم الروماني في فلسطــين، و لكنه لم يجده مــقترفاً
لجريمة الخيانة، و تمنى لو يستطيع إخلاء سبيله ، و لكن الذين اتــهموا عيسى جاءوا
باتهامات أخرى ضده وقالوا : <<إن هذا الرجل من الجليل يثير الشعب ضد
القــيصر ، و أن تهمته جاهزة، فهو قد أضل الشعب بتـعاليمه و آياته الكاذبة، و أفسد
الأمة ،وحــرّض الناس على الامتناع عن دفع الجزية.>>
والتفت بيلاطس إلى عيسى يسأله عمّا قال في ذلك ؟
أجاب عيسى : قلت أعطوا ما لقيصر لقيصر ، و مالله
لله .
و هــز بيلاطس رأسه في حيرة، فما وجد في ذلك تــحريضاً
ضد القيصر، و بإشارة من قيافا إلى حثالته، ارتفعت صـرخاتهم تطالب بــرأس الخائن !، و
يقول بيلاطس : <<انتظروا قليلاً أسمع منه، اسمع يا يسوع ،
ســلّمك الكهنة و شيوخ الشعب إلى يـدي، فقل الحق لأقيم العدل ، فأنا قادر على أن
أطلقك ، و قادر على الأمر بقتلك>>.
و يتكلم عيسى : <<إذا أمرت بقتلي
ترتكب ظلماً كبيراً لأنك تقتل بريئاً>>، و يصرخ قيافا ومن ورائه
حثالاته:<<إنه ليس بريئاً، إنه كافر، اسأله ماذا يقول في مواعظه عن
الــكهنة وخدمة الهيكل؟>>، و يسأله بيلاطس عمّا قال فيهم ؟
فأجابهم بـــــهدوء : <<قلت أيها الكتبة و الفريسيون، لقد تركتم أثقل
الناموس الحـق و الرحمة والإيمان، أنتم تنقون ظاهر الكأس و الصفحة و هما في الباطن
مترعان بالرجس و الدعارة، ويل لكم إنكم كالقبور المبيضة خارجها طلاء جميل و داخلها
عظام نخرة ،لقد انحرفتم عن سنن أســلافكم ، وألهتكم الحياة الدنيا بــزخرفها،
فأقبلتم على الشهوات تتستّــرون بها،لقد سمعتم أنه قيل تحب قريبك و تبغض عدوك ،فأما
أنا ، فأقول أحبّـوا أعداءكم ،بــاركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم ، واغفروا لمن
يسيء إليكم ، تعلّقوا بالكمال، فإن الله كامل يحب الكــمال.>>
وتكلم بيلاطس وسط صرخات قــيافا و حثالاته:<<ها
أنا سألته قدامكم ، ولم أجد علة مما تشكون به عليه ،ولكن دعوه لي أؤدبه>>
،وترتفع الصرخات تطلب القتــل، و يردّ عليهم بيلاطس في صبر :<<اسمعوا
لي يا معشر يهود، إنني أطلق لكم كل عيد أسيراً، فمن تريدون أن أطلق لكم في
هـذا العيد؟، _باراباس_ قاطع الطريق أم _عيسى_ الذي
يدعى المسيح؟>> و ترتفع الأصوات : [أطلق باراباس ، أما عيسى،
فقد حق عليه القتل و الصلب حسب نــاموسنا].
و يصرخ فيهم بيلاطس :<<إذا كان هذا
ناموسكم، فخذوه أنتم فاصلبوه، فأنا لا أجد ما آخذ به هذا البار..و إني أغسل يدي من
دمه>>.
وينقض قيافا و اليهود على عيسى و هم يــهتفون <<دمه
علينا و على أولادنا>>، قالوا ذلك وهم لا يــدرون أن الله يــقول في
مــحكم آياته :
سليمان مظهر
-بتصرف-